شيء من حياة أمير الكمان الأستاذ سامي بك الشوا | قبل النكبة

سامي الشوا

 

المصدر: هنا القدس - مجلّة القسم العربيّ للإذاعة الفلسطينيّة.

موعد النشر: الأحد، 10 تشرين الثاني 1940.

موقع النشر: جرايد.

 

وهي الكلمة الّتي أُلْقِيت من محطّة الإذاعة الفلسطينيّة منذ أسابيع.

يحقّ للمستمعين الكرام أن يستمعوا إلى كلمة موجزة في حياة أمير الكمان، الأستاذ سامي الشوا، الفنّان النابغة الّذي طار صيته في الآفاق في المشرق والمغرب، وفي قصور الملوك ومعاهد الموسيقى العالميّة ومحطّات الإذاعة والمحافل الاجتماعيّة الراقية، كما يحقّ لهم أن يأخذهم السحر الحلال من الأنغام الشجيّة الّتي تبعث من أوتار كمانه. وربّما تساءل بعضكم، هل سامي الشوا مصريّ أو سوريّ أو مغربيّ أو مشرقيّ، وفي الجواب على هذا نقول إنّ الأستاذ سامي الشوا هو في الحقيقة كلّ هذا وأكثر، بمعنى أنّ أخلاقه الرضيّة، ونفسه الطيّبة، ونبوغه في الفنّ الموسيقيّ، جعله عربيًّا ينتمي إلى كلّ قطر من أقطار العرب، وشرقيًّا ينتمي إلى الشرقيّة من حيث الإبداع والنبوغ، فهو عربيّ لكلّ العرب في جميع الأقطار، وشرقيّ لكلّ الشرق في جميع الأرجاء؛ وقد استمعتم إلى الآن أوقاتًا عديدة إلى أوتار كمانه، وكلّما أصغيتم وسُحِرتم ازددتم شوقًا إلى زيادة الاستماع، فحريّ بنا وبكم أن نعلم شيئًا عن حياة هذا النابغة.

 

 

موطنه في حلب، وحلب عدا كونها عاصمة بني حمدان، فهي لا تزال من عواصم الموسيقى في العالم العربيّ. وأمّا مولده فقضيّة موجلة في هذه الكلمة، وقد كان جدّه رحمه الله، إلياس الشوا، صديقًا حميمًا للشيخ أبي الهدى الصياديّ الشهير، وكان جدّه أستاذًا في الفنّ الموسيقيّ، كما كان والده أيضًا، وقد نزح والده، السيّد أنطون الشوا، من حلب إلى مصر منذ نحو نصف قرن، وكان من المبرزين في الفنّ الموسيقيّ، ويقوم برحلات بين مصر وسوريا وإستنبول. أمّا صاحب هذه الترجمة، الأستاذ سامي الشوا، فقد وُلد في مصر، ونشأ على نغمات الكمان، وقد تكون هذه النغمات أول ما استمعت إليه أذناه من صوت الفنّ في هذا الوجود، وقد توفّي والده سنة 1913، ومنذ صغره أخذت تظهر عليه مخايل النبوغ والإبداع، فلمّا ظهر في أوّل حفلة عامّة عازفًا على كمانه، كان سنّه أقلّ من الرابعة عشرة، وكان ذلك في دار المرحوم إسماعيل سري باشا في مصر، وكان ذلك في حياة والده؛ وهنا قد يُباح لنا أن نذكر جريمة واحدة ارتكبها هذا النابغة في أوّل حياته، كانت سببًا في اعتصامه بهذا الفنّ حتّى امتلك قياده وعلا فيه هذا العلوّ الكبير؛ ذلك أنّه ذهب خلسة عن والده من مصر إلى حلب، حيث قضى هناك ثلاث سنوات منقطعًا إلى إتقان العزف على هذه الآلة الموسيقيّة العجيبة، وقد قلنا إنّه ارتكب هذه الجريمة لأنّ والده كان كلّما رآه يعزف على الكمان سرًّا وخلسة في البيت، يزجره ويؤنّبه، ويتوعّده بالقصاص إذا عاد إلى مثل ذلك ثانية. أمّا الأسباب الّتي كانت تدعو والده إلى هذا، فربّما كانت ناشئة عن عدم اعتقاده أن يكون للكمان مستقبل زاهر على يد ابنه، كالمستقبل الّذي تحقّق بالفعل، وربّما كان من جملة الأسباب أيضًا، أنّ والده، مع أنّه كان فنّانًا شهيرًا، يخشى على ابنه أن يلقى من وراء الفنّ كما كان يلقى أكثر أبنائه المنتمين إليه.

 

 

وأوّل رحلة موسيقيّة قام بها الأستاذ سامي الشوا من مصر إلى إستنبول، عن طريق سوريا، بدعوة من أمير الشعر أحمد شوقي رحمه الله؛ فأقاما في دار الخلافة وقتئذ مدّة من الزمن، كانا وقتها في عاصمة العواصم الإسلاميّة موضع إعجاب الخليفة ورجال الدولة والكبراء والأعيان، هذا بشعره الّذي جدّد به دولة الشعر، وهذا في كمانه الّذي أحيا به دولة الفنّ الموسيقيّ. وكان في الأستانة وقتئذ سموّ الخديوي عبّاس حلمي باشا. ثمّ قام بعدئذ بعدّة رحلات بين مصر وسوريا، ثمّ قام بأوّل رحلة بعد الحرب الكبرى الأولى إلى بيروت سنة 1919، ثمّ في سنة 1920 دُعي إلى دمشق زمن الحكومة العربيّة، وكان ضيفًا على جلالة الملك فيصل رحمه الله، فأقام في دمشق الجديدة، أو عاصمة بني أميّة، مدّة من الزمن في رعاية الملك وكبار رجال الدولة، وفي سنة 1927 رحل إلى أوروبّا وأقام متنقّلًا في عواصمها نحو سنة؛ وعزف على كمانه في معاهد الموسيقى في باريس مرّات عديدة، فدُهش منه كبراء أهل الفنّ، ثمّ رحل إلى الولايات المتّحدة، فكان أوّل فنّان عربيّ غزا الولايات، موطن الحضارة وأمّ العجائب، بكمانه، حتّى كان الحكّام والنوّاب والشيوخ يحضرون حفلاته ويغادرونها معجبين مدهوشين.

وفي سنة 1925، قام برحلة إلى أوروبّا استغرقت سبعة شهور، متنقّلًا بين عواصمها الكبرى، يقيم الحفلات الباهرة وينثر فيها أنغامه الشجيّة. وفي سنة 1927 قام بأوّل رحلة إلى الولايات المتّحدة وأحيا الحفلات الكبيرة، وكان لها صدى كبير في أرجاء الولايات المتّحدة والعالم العربيّ، وكانت الصحف الأميركيّة تقول عنها موسيقى أبو الهول القديمة في الدنيا الجديدة، ثمّ عاد إلى مصر، وفي سنة 1931 قام برحلة إلى المغرب الأفريقيّ كلّه، فزار طرابلس وتونس والجزائر ومراكش، واستوحى في هذه الأقطار كثيرًا من روح الموسيقى القديمة الّتي تحملها نسمات الأندلس حتّى اليوم، شرقًا وغربًا، ثمّ بعد ذلك زار بغداد بدعوة من الملك فيصل، وفي سنة 32 قام برحلة إلى معرض شيكاغو، وفي سنة 37 قام برحلة إلى الأرجنتين وأكثر بلاد أمريكا الجنوبيّة، واستغرقت رحلته هذه ثلاثة عشر شهرًا.

 

 

ويتّضح من هذا أنّ نابغتنا الأستاذ سامي الشوا، لا يكون اقتصر على النبوغ في هذا الفنّ، بل على الفتح في سبيله برحلاته ونشره هذه الأنغام في مختلف الأقطار الشرقيّة والغربيّة وديار المهجر. أمّا الموسيقى الّتي يسحر بها مستعميه، فهي قائمة على أصول الموسيقى العربيّة القديمة الّتي عرفها العرب من قبل زمن بني العبّاس، وطرب لها الخلفاء كالرشيد والمأمون على يد معبد وابن سريح والغريض والموصلي وغيرهم. وهذه الموسيقى العربيّة كما تعلمون، انتقلت من المشرق إلى الأندلس، حيث تآلف مزيج جديد هناك قائم على أصول الموسيقى العربيّة هذه والشعر الأندلسيّ، فكان منهما هذا المزيج العجيب الّذي تولّدت منه التواشيح الأندلسيّة الّتي لا تزال حتّى اليوم سحرًا يستولي على الشرق وأبنائه. أمّا الكمان الّتي يعزف عليها، فهي رفيقة أسرته وتراث آبائه وأجداده، تحمل ذكرياته كما تحمل ذكريات سلفه، إذ لها من العمر مائة وعشرون سنة ورثها من أبيه كما ورثها أبوه من جدّه، وهي الكمان الّتي اختاره من أشجى الأنغام خلال شهر الصيام، والسلام عليكم.

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.